14/07/2022 - 11:40

«أمّ سعد»... الشجرة الإنسان | ترجمة

«أمّ سعد»... الشجرة الإنسان | ترجمة

غسّان كنفاني (1936 - 1972)

 

العنوان الأصليّ: Um saʿd.

ترجمة: حسني مليطات. 

 


 

لا يُعَبَّر عن المقاومة الفلسطينيّة بأنّها مقاومة مسلّحة فقط، رغم أنّها عُرفت هكذا؛ فوسائل الإعلام المختلفة تصف، وبمصداقيّة متفاوتة، حالات الصراع الدائرة حاليًّا؛ فأخبار خطاب عرفات في «الأمم المتّحدة»، والحديث عن هجمات الفلسطينيّين، وعن مداهمات الاحتلال الإسرائيليّ للأراضي العربيّة، وعن رحلة السادات إلى إسرائيل... وغيرها، ساعدت على زيادة الوعي بمشكلة تُجوهِلَت عمليًّا منذ عقد من الزمن أو أقلّ قليلًا، إلّا أنّ ذلك كلّه ناتج عن جزء من مشكلة تطوّرت وتحوّلت إلى مسار خارجيّ.

في الوقت الّذي يجهل فيه الكثيرون حقيقة ما يحدث في فلسطين، فإنّ الشعب الفلسطينيّ لا يتمثّل في حزب بعينه، ولا بالفدائيّين؛ فالمقاومة ليست صراعًا مسلّحًا فقط، بل هي مقاومة البقاء والتعبير، وما زال هذا المستوى التعريفيّ بهذا النوع من المقاومة مجهولًا في بعض الدول، وخاصّة دول أمريكا اللاتينيّة.

على الرغم من منطقيّة الحديث عن الأدب الفلسطينيّ، الّذي يتمتّع بجودته وتفاعله الخاصّ به، وعلى الرغم من أنّ أصوات الكتّاب تتعالى بشكل مستمرّ، فإنّ هذه ’الظاهرة التعبيريّة‘ تبقى خارج المجال الأدبيّ غير المتخصّص.

مع ذلك، ومن خلال ذلك الأدب، سنكون قادرين على فهم أكثر واقعيّة لهذا الشعب؛ وأقصد هنا الواقعيّة البيّنة في أيّامنا هذه، والمتعارف عليها اليوم وكلّ يوم. ومن خلال هذا الأدب أيضًا، سنكون قادرين على فهم الأبعاد الحقيقيّة لهذه التراجيديا.

 

الأدب حامل الهويّة 

من المؤكّد أنّ للفلسطينيّين، شعبًا، هويّة متكاملة وناضجة، وقد نوقش من قبل موضوع أكانت هذه الهويّة موجودة فعلًا أم لا قبل الاحتلال الصهيونيّ، ومن المؤكّد أنّها كانت موجودة، ولعلّ عناصر تلك الهويّة ’القَبليّة‘ مكوّنة من عناصر مختلفة عن تلك الّتي تتكوّن منها اليوم؛ فربّما لم يكن ثمّة هويّة قوميّة بالشكل المتعارف عليه، أو من الممكن أن تكون، ربّما، هويّة ’جنينيّة‘، لمّا تظهر ملامحها بعد بشكل واضح، ومع ذلك لا يمكن إنكار وجودها وحيويّتها الحاليّة.

أعتقد أنّ الأدب الفلسطينيّ يمنحنا دليلًا على وجود هذه الهويّة. على صعيد آخر، أعتقد أنّ النقاش السابق حولها، يُضاف حجّةً قويّة على وجودها أيضًا. يكشف الأدب الفلسطينيّ عن الأسباب، ويفتّح الرؤى الّتي تفلت من المقترحات الأيديولوجيّة البحتة. لا يبحث الأدب الفلسطينيّ عن وعي قوميّ، على اعتبار أنّه قائم عليه في الأصل.

وبالتالي؛ فالحديث يدور عن ’أدب المقاومة الفلسطينيّ‘، وليس عن الأدب الفلسطينيّ العاديّ. وهل اسم ’أدب المقاومة‘ مثل غيره من التسميات؟ هل هو عبارة عن تعريف بطابع أدبيّ مميّز عن غيره؟ أنا أميل إلى الخيار الثاني، ولكن بوجود مُحدّدات. فمَنْ لا يعرف النصوص، وليس على دراية بها، لكنّه على معرفة بالكفاح المسلّح الّذي قام به الفدائيّون، فسيجد في النصّ الأدبيّ ذاك ما يغريه لمهاجمة هذه الظاهرة التعبيريّة، وينعتها، سبًّا وإهانة، بأنّها ’ذات طابع عدوانيّ‘، إلّا أنّه، في الواقع، يغفل ’محيط‘ ذاك النصّ الأدبيّ، ويجهل عوامل تكوينه.

لا يوجد شيء أبعد من ذلك كلّه؛ لا النشرات، ولا الدعايات. وإذ كان الأدب الفلسطينيّ ’إخطارًا‘، فذلك لأنّه، وقبل كلّ شيء، يصوّر لنا الواقع الّذي يعيشه أبناء الشعب. يصوّر لنا الأدب الفلسطينيّ عالمًا متكاملًا ومألوفًا، وذلك بعلاقته الأبويّة ’البطريركيّة‘، ويتجسّد ذلك التصوير بتمثيله لحياة الفلّاحين والحكماء بطريقته الخاصّة. بالإضافة إلى تصوير الجذور العميقة للأرض، والتعلّق بشجرتَي الزيتون والبرتقال. إنّ تمزّق هذا الفضاء الكلّيّ، وقطع ارتباط الإنسان ببيئته، يجعل الحاضر أكثر دراماتيكيّة، ويرسم بقوّة أكبر ظلم الصهيونيّة، المتمثّل في جشعها في التهام الأرض. إنّ الأدب الفلسطينيّ أكثر من كونه خطابًا عنيفًا ضدّ العدو (رغم عدم إمكانيّة إنكار وجوده)، فهو عبارة عن ’رثاء‘ لحالة الضياع، وحديث عن ’الخطأ‘ في أن يسمح لنفسه بالضياع. وبالتالي، فإنّ المقاومة تعني القتال من الداخل، والحفاظ على أساس وجود المرء على قيد الحياة.

 

«أمّ سعد»... الرواية الرمز

اللافت أنّ أوّل الإسهامات الكتابيّة في الأدب الفلسطينيّ كان فنّ الشعر. يعود ذلك، ربّما، إلى أنّ الشعر ضمن الغريزيّة القائمة على الحديث عن القيم الأصليّة، إذ يُلجأ، وعن قصد، إلى جنس أدبيّ ذي تراث تعبيريّ مستمدّ من تاريخيّة الأدب العربيّ. وربّما أيضًا؛ لأنّ الشعر أكثر إيجازًا ومباشرة وشموليّة في التعبير؛ فهناك جيل كامل من الشعراء، بدأت أعمالهم تنتشر في نهاية السبعينات؛ فالشعراء الّذين وُلدوا في فلسطين، وعاشوا زمن التهجير خلال طفولتهم، تختلف مساراتهم الكتابيّة، إلّا أنّها في جوهرها متّسقة.

فأسماء مثل محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وسليم جبران، تُصَنَّف ضمن هذا الجيل، وسنتعرّف عليهم شيئًا فشيئًا في ما بعد. لكن في المقابل، لم يحظَ كتّاب الفنون الأدبيّة الأخرى مثل المسرح والرواية والقصّة القصيرة، بشهرة أولئك الشعراء. لهذا السبب؛ لم يجذب اسم غسّان كنفاني (1936 - 1972) انتباه المترجمين والناشرين، وأعتقد أنّ هذه فرصة جيّدة لتقديمه في هذا السياق؛ فغسّان كنفاني بشخصيّته، يلخّص قيم الإنسان السياسيّ، والكتّاب الملتزمين.

من بين الأعمال المختلفة الّتي كتبها كنفاني، اخترنا عمله الموسوم بـ «أمّ سعد» (مجموعة من القصص الّتي تتمحور حول شخصيّة واحدة)؛ وذلك بهدف تقديمه إلى القارئ الناطق باللغة الإسبانيّة، ويعود عامل اختيار هذا العمل تحديدًا إلى: أنّ «أمّ سعد»، بصفته عملًا أدبيًّا متكاملًا، وشخصيّة أدبيّة، يكثّف إنتاج كنفاني، ويوضّح رؤيته الخاصّة؛ فأمّ سعد رمز؛ رمز إلى الفلّاحة الفلسطينيّة المسكينة، ورمز إلى الوجود، وممثّلة للفلسطينيّين جميعهم.

لا تَدّعي رواية كنفاني أنّها تلخّص المآثر الفلسطينيّة. ثمّ إنّ أعماله ليست وقائع صراع منظّم، بل هي الحدّ الأدنى من التاريخ الّذي كتبه أفراد صغار، يصارعون من أجل البقاء، والمساهمة في العودة بأعمالهم العفويّة. ومن المثير للاهتمام أنّ كنفاني رجل مؤطّر سياسيًّا، الرجل الّذي قدّر أشكال النظام المنظّم، ومع ذلك، فهو لم يطرح ’معنًى‘، أو بالأحرى، لم يدرك أهمّيّة الناس الّذين، بمجرّد تفاعلهم في حياتهم اليوميّة، يتعاونون ويهتمّون بالقضيّة الفلسطينيّة. لهذا؛ نجد رواياته تتضمّن القليل من الطابع السير - ذاتيّ، وربّما لهذا السبب كان المؤلّف - الفرد، رغم وجوده يبقى متفرّجًا - مرتبكًا أحيانًا. لا يعرف كنفاني مقدار ما شاركه مع أمّ سعد، إلّا أنّه على معرفة تامّة بأنّه تعلّم منها كلّ شيء، فهو يعلم بأنّها المصدر الدائم لرؤيته السياسيّة.

إنّ أمّ سعد فلّاحة. لها عالمها السابق؛ عالم فلسطين الخالية من النزاعات؛ فلم نشعر على الإطلاق بأنّها جزء من المستغلّين، لذلك، وبناء على هذا؛ تخلّى كنفاني في نصوصه الأدبيّة عن ’التحليلات السياسيّة‘؛ لأنّ الحقائق الطبقيّة في فلسطين قبل عام 1948 ليست مهمّة للهويّة الواقعيّة. إنّ عناصر التماثل الجوهريّ الّذي نتحدّث عنه هو ما تبقّى لنا اليوم، وهو ما يشعر به الفلسطينيّون، باعتباره ميزة خاصّة بهم.

 

نسيج كنفاني الروائيّ

قيل كثيرًا بأنّ كاتبنا رَسَمَ، وبكلّ مهارة، الفلّاح الفلسطينيّ بصورته الآنيّة والسابقة أيضًا. ومع ذلك، لا يوجد في أعمال كنفاني أوصاف كاملة لبيئة القرية ولأعمال الفلاحة في الحقل؛ فالفضاء المكانيّ الّذي اهتمّ كنفاني بتمثيله، وبناء الأحداث من خلاله، هو فضاء المخيّمات، فضاء المهمّشين؛ فالمهامّ الّتي يقوم بها الفلسطينيّ نابعة من وسط الوحل والألم والبؤس.

مع ذلك، وهذا يتجلّى في «أمّ سعد»، يوجد عناصر محدّدة ومعيّنة لا تترك مجالًا للشكّ في هويّة الشخصيّات؛ ففي نصّه إشارة إلى ديمومة الثوب الراسخ، والعادات المتينة للشخصيّة المبتدعة لفظيًّا وتعبيرًا في العمل الجادّ، والجِلد الّذي يشبه الأرض، والجسد كلّه مثل الأرض، بالإضافة إلى المعرفة العميقة للأشياء، والحياة المشابهة لحياة الشجرة، الّتي تستمدّ غذاءها من باطن الأرض، "لتعطي الكثير". والشجرة في الأدب الفلسطينيّ رمز تذكيريّ دائم، إنّها رمز للأرض المستولى عليها، كما أنّها رمز للبقاء، وأصالة الإنسان. إنّ الشجرة هي الإنسان نفسه.

تتألّم أمّ سعد جرّاء الهزيمة، إلّا أنّها تعيش حزنها بكلّ بساطة. ويتألّم كنفاني جرّاء الهزيمة، إلّا أنّه يعبّر عنها بالبساطة نفسها. لا يوجد في خطابه بلاغة معقّدة، ولا أشكال تعبيريّة استقصائيّة؛ فأسلوبه مباشر وواضح، مثل الفضاء المكانيّ الّذي وُلد فيه، وبالكاد يكون صوته مسموعًا، ومع ذلك، فهو يتحدّث بأقصى ما عنده؛ فربّما لأنّ ما يعبّر عنه دليل على حبّ مجروح؛ حبّ مهان، وليس كراهية، ولا عنفًا.

 

* تُنْشَر هذه المقالة ضمن ملفّ خاصّ يتزامن مع مرور خمسين عامًا على اغتيال الشهيد غسّان كنفاني على يد الاستعمار الإسرائيليّ، تُنْشَر موادّه على مدار شهر تّموز (يوليو) 2022.

 


 

حسني مليطات

 

 

 

أكاديميّ ومترجم فلسطينيّ، حاصل على الدكتوراه من «جامعة أوتونوما» في مدريد، متخصّص في الأدب المقارن والدراسات الثقافيّة والفنّيّة، يعمل أستاذًا مساعدًا في «الجامعة العربيّة الأمريكيّة» في فلسطين.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا. 

 

 

خمسون عامًا على اغتيال كنفاني | ملفّ

خمسون عامًا على اغتيال كنفاني | ملفّ

23/08/2022
مقاومة الانتظار الفلسطينيّ... «الباب» نموذجًا

مقاومة الانتظار الفلسطينيّ... «الباب» نموذجًا

11/07/2022
غسّان كنفاني... الفنّان التشكيليّ

غسّان كنفاني... الفنّان التشكيليّ

01/08/2022
قراءة دون رمزيّة في غرائبيّة «القبّعة والنبيّ»

قراءة دون رمزيّة في غرائبيّة «القبّعة والنبيّ»

25/07/2022
قنديل كنفاني الصغير... النور بين كانط وأفلاطون ونيتشه

قنديل كنفاني الصغير... النور بين كانط وأفلاطون ونيتشه

25/07/2022
أن تكون مثقّفًا مزعجًا

أن تكون مثقّفًا مزعجًا

05/07/2022
شعر الأرض المحتلّة... حوار مع غسّان كنفاني | أرشيف

شعر الأرض المحتلّة... حوار مع غسّان كنفاني | أرشيف

19/07/2022
مأزق الزمن عند كنفاني... إلغاء المستقبل الفلسطينيّ

مأزق الزمن عند كنفاني... إلغاء المستقبل الفلسطينيّ

08/08/2022
"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني | ترجمة

"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني | ترجمة

19/07/2022
عن الأقلام أكتب... وليس عن الكتب | أرشيف

عن الأقلام أكتب... وليس عن الكتب | أرشيف

24/07/2022
أفكار التغيير واللغة العمياء... مَنْ يقتل كنفاني مرّة أخرى؟

أفكار التغيير واللغة العمياء... مَنْ يقتل كنفاني مرّة أخرى؟

01/08/2022
بين شنق سيّد قُطب واغتيال كنفاني

بين شنق سيّد قُطب واغتيال كنفاني

03/08/2022
أدب غسّان كنفاني... حديث في الوعي الثوريّ

أدب غسّان كنفاني... حديث في الوعي الثوريّ

18/07/2022
بين الإعجاب وسهام النقد... كنفاني متخفّيًّا وراء ’فارس فارس‘

بين الإعجاب وسهام النقد... كنفاني متخفّيًّا وراء ’فارس فارس‘

07/08/2022
المنهج التركيبيّ وولادة الشخصيّة الأدبيّة الفلسطينيّة

المنهج التركيبيّ وولادة الشخصيّة الأدبيّة الفلسطينيّة

22/08/2022
شمس فلسطين الّتي لا تغيب

شمس فلسطين الّتي لا تغيب

04/07/2022
«عائد إلى حيفا»... زيارة مناطق الصدمة

«عائد إلى حيفا»... زيارة مناطق الصدمة

13/07/2022
غسّان كنفاني في فرنسا... حضور شحيح

غسّان كنفاني في فرنسا... حضور شحيح

16/07/2022
صورة أبديّة على حائط عالم ليس لنا

صورة أبديّة على حائط عالم ليس لنا

07/07/2022

التعليقات